عباس:"سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم، فشَرِب وهو قائم"، وفي الرواية الأخرى:"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَرِب من زمزم، وهو قائم"، وفي "صحيح البخاريّ" أن عليًّا - رضي الله عنه - شَرِب قائمًا، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلتُ.
على أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالًا باطلةً، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعّف بعضها، وادَّعَى فيها دعاوى باطلة، لا غرض لنا في ذكرها، ولا وجه لإشاعة الأباطيل، والغلطات في تفسير السنن، بل نذكر الصواب، ويشار إلى التحذير من الاغترار بما خالفه، وليس في هذه الأحاديث - بحمد الله تعالى - إشكال، ولا فيها ضَعْف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شُربه - صلى الله عليه وسلم - قائمًا فبيان للجواز، فلا إشكال، ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعيّن المصير إليه، وأما من زعم نَسْخًا، أو غيره فقد غَلِط غلطًا فاحشًا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، لو ثبت التاريخ، وأنّى له بذلك؟ والله أعلم.
[فإن قيل]: كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا، وقد فعله النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟.
[فالجواب]: أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانًا للجواز، لا يكون مكروهًا، بل البيان واجب عليه - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يكون مكروهًا؟، وقد ثبت عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرةً مرةً، وطاف على بعير، مع أن الإجماع على أن الوضوء ثلاثًا، والطواف ماشيًا أكمل، ونظائر هذا غير منحصرة، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينبّه على جواز الشيء مرّةً، أو مرّات، ويواظب على الأفضل منه، وهكذا كان أكثر وضوئه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا ثلاثًا، وأكثر طوافه ماشيًا، وأكثر شُربه جالسًا، وهذا واضح، لا يتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ - رحمه الله - (١).
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد النوويّ - رحمه الله - في شرح أحاديث هذا الباب، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.