المشرك أيضًا كان تأنيسًا له، ولَأن يثيبه بأكثر مما أهدى، وكذا يقال في هدية كسرى المذكورة في كتاب الحربيّ من حديث عليّ -رضي الله عنه-، وردّ هدية عياض بن حمار، وكان بينه وبين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معرفة قبل البعثة، فلما بُعث أهدى له، فردّ هديته، وكذا ردّ هدية ذي الجوشن، وكانت فرسًا، وكذا ردّ هدية ملاعب الأسنّة؛ لأنهم كانوا سُوقةً، وليسوا ملوكًا، وأهدى له مَلِك أيلة بغلةً، وفروة الجذاميّ هدية، فقبلهما، وكانا مَلِكين.
ومما يؤيد هذا ما ذكره أبو عبيد في "كتاب الأموال" أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما قَبِل هدية أبي سفيان بن حرب؛ لأنها كانت في مدة الهدنة، وكذا هدية المقوقس إنما كان قَبِلها؛ لأنه أكرم حاطبًا، وأقرّ بنبوته -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤيسه من إسلامه، وقبل هدية الأكيدر؛ لأن خالدًا -رضي الله عنه- قَدِم به، فحَقَن -صلى الله عليه وسلم- دمه، وصالحه على الجزية؛ لأنه كان نصرانيًّا، ثم خلّى سبيله، وكذا مَلِك أيلة لمّا أهدى كساه -صلى الله عليه وسلم- بُرْدًا له، وهذا كله يرجع إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل هدية إلا ويكافئ.
[ثم اعلم]: أن الناس اختلفوا فيما يُهدى للأئمة، فروي عن عليّ -رضي الله عنه- أنه كان يوجِب ردّه إلى بيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: ما أهدى إليه أهل الحرب، فهو له، دون بيت المال، وأما ما يُهدى للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- خاصة فهو في ذلك بخلاف الناس؛ لأن الله تعالى اختصه في أموال أهل الحرب بخاصة لم تكن لغيره، قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}[الحشر: ٦] بعد قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ}[الحشر: ٦] فسبيل ما تصل إليه يده من أموالهم على جهة الهدية والصلح سبيل الفيء، يضعه حيث أراه الله، فأما المسلمون إذا أَهْدَوا إليه فكان من سجيته أن لا يردّها، بل يثيبهم عليها. انتهى (١)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف -رحمه الله- أوّل الكتاب قال: