للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(المسألة الثالثة): كتب بعض الفضلاء (١) في هذا المحلّ بحثًا نفيسًا أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، قال: إن أكبر ما يحتاج إليه الإنسان بعد الطعام والشراب هو اللباس الذي يستر عورته، ويدفع عنه الحرّ والبرد، ويتجمّل به في المجامع، ولكون الإسلام دينًا تشمل أحكامه جميع شُعب الحياة لم يَدَعْ باب اللباس هَمَلًا، بل وضع له مبادئ، وأحكامًا لا يجوز لمسلم أن يخالفها.

وقد يزعم الإنسان المعاصر أن اللباس والزينة من الأمور العاديّة البسيطة التي تخضع للتقاليد الرائجة في كلّ عصر ومصر، ولا علاقة لها بأحكام الحلال والحرام، فإنها ليست من الأمور الجذريّة التي تقوم على أساسها الحياة، ولكنّ هذا الزعم إنما نشأ من قلّة التدبّر، وعوز الاطّلاع على ما يؤثّر اللباس في حياة الإنسان، والواقع أن اللباس والزيّ، وإن كان أمرًا يتعلّق بمظهر الإنسان دون مخبره، غير أن له أثرًا عميقًا على سيرته، وخُلقه، وأحواله النفسيّة، فإن من اللباس ما يغرس في النفوس بُذور الكِبْر والخيلاء، ومنه ما يربّي فيها التواضع لله، ومنه ما يُنشئ فيها الأخلاق الحسنة، ومنه ما يمهّد لها السبيل إلى الإسراف، والأَشَرِ، والبَطَر، وغَمْط حقوق الناس، فمن زعم أن اللباس ليس إلا مظهرًا من المظاهر، ولا صلة له بالسِّيَر والأخلاق الكامنة في الصدور، فقد جَهِل طبيعة الإنسان.

ولذلك لم يترك الإسلام أمر اللباس سُدًى، ولكن الإسلام لا يسلك في شأن من شؤون الحياة إلا طريقًا يتّفق مع الفطرة السليمة، ويتجاوب مع مقتضيات الطبيعة، ولمّا كان الإنسان جُبل على حبّ التنوّع في أنواع اللباس والطعام لم يقصُره الإسلام على نوع دون نوع، ولم يقرّر للإنسان نوعًا خاصًّا، أو هيئةً خاصّةً من اللباس، ولا أسلوبًا خاصًّا للمعيشة، وإنما وضع مجموعة من المبادئ، والقواعد الأساسيّة يجب على المسلم أن يحتفظ بها في أمر لباسه، ثم تركه حرًّا في اختيار ما يراه من أنواع الملابس، وليس هناك ما يمنع التطوّر في أنواع اللباس ما دام الإنسان يحتفظ بهذه المبادئ، ويفي بشروطها الواجبة.


(١) هو صاحب "تكملة فتح الملهم" ٤/ ٨٧ - ٨٩.