وقال في "الفتح"(١): قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ"؛ أي: إن معجزتي التي تحدّيت بها الوحيُ الذي أُنزِل عليّ، وهو القرآن؛ لِمَا اشتَمَلَ عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يُؤْتَ من المعجزات ما أُؤيي مَن تقدمه، بل المراد أن القرآن هو المعجزة العظمى التي اختَصَّ بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعْطِيَ معجزةً خاصة به، لم يُعْطَها بعينها غيره، تَحَدَّى بها قومَهُ، وكانت معجزةُ كلَّ نبيّ تقع مُنَاسِبَةً لحال قومه، كما كان السحر فاشيًا عند فرعون فجاءه موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالعصا على صورة ما يَصْنَعُ السحرةُ، لكنها تَلَقَّفَتْ ما صَنَعُوا، ولم يَقع ذلك بعينه لغيره، وكذلك إحياء عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لكون الأطباء والحكماء، كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم، بما لم تَصِل قدرتهم إليه، ولهذا لَمّا كان العرب الذي بُعِثَ فيهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الغاية من البلاغة، جاءهم بالقرآن الذي تحدّاهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يَقْدِروا على ذلك.
وقيل: المراد أن القرآن ليس له مِثْلٌ، لا صورةً ولا حقيقةً، بخلاف غيره من المعجزات، فإنها لا تخلو عن مثل.
وقيل: المراد أن كلَّ نبي أُعطِيَ من المعجزات ما كان مثله من كان قبله صورةً أو حقيقةً، والقرآن لم يُؤتَ أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله:"فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا".
وقيل: المراد أن الذي أوتيته لا يَتَطَرَّق إليه تَخْييلٌ، وإنما هو كلامٌ معجزٌ لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيَّل من التشبيه به، بخلاف غيره، فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يَقْدِر الساحر أن يُخَيِّل شِبْهه، فيَحتاج مَن يميز بينهما إلى نظر، والنظر عُرْضة للخطأ، فقد يُخطئ الناظر، فيَظُنّ تساويهما.
(١) وقال في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" في شرح هذا الحديث: ومعنى الحصر في قوله: "إنما كان الذي أوتيته" أن القرآن أعظم المعجزات، وأفيدها، وأدومها؛ لاشتماله على الدعوة، والحجة، ودوام الانتفاع به الى آخر الدهر، فلما كان لا شيءَ يقاربه، فضلًا عن أن يساويه، كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع. انتهى. "الفتح" (١٣/ ٢٦٢) رقم (٧٢٧٤).