وقد عقد البيهقيّ في "المدخل": "بابُ الدليل على أنَّه قد يَعْزُب على المتقدّم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره"، ثم ذكر حديث أبي بكر في الجدّة، وهو في "الموطأ"، وحديث عمر في الاستئذان، وهو المذكور في هذا الباب، وحديث ابن مسعود في الرجل الذي عَقَد على امرأة، ثم طلقها، فأراد أن يتزوج أمها، فقال: لا بأس، وإجازته بيع الفضة المكسَّرَة بالصحيحة متفاضلًا، ثم رجوعه عن الأمرين معًا لَمّا سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما، وأشياء غير ذلك، وذكر فيه حديث البراء:"ليس كلُّنا كان يسمع الحديث من النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كانت لنا صنعةٌ، وأشغالٌ، ولكن كان الناس لا يكذبون، فيحدِّث الشاهد الغائب"، وسنده ضعيف، وكذا حديث أنس:"ما كلّ ما نحدثكم عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمعناه، ولكن لَمْ يكذب بعضنا بعضًا"، ثم سَرَد ما رواه صحابيّ عن صحابيّ، مما وقع في "الصحيحين"، وقال: في هذا دلالة على إتقانهم في الرواية، وفيه أبين الحجة، وأوضح الدلالة على تثبيت خبر الواحد، وأن بعض السنن كان يخفى عن بعضهم، وأن الشاهد منهم كان يُبَلِّغ الغائب ما شَهِد، وأن الغائب كان يقبله ممن حدَّثه، ويعتمده، ويعمل به.
قال الحافظ: خبر الواحد في الاصطلاح خلاف المتواتر، سواء كان من رواية شخص واحد، أو أكثر، وهو المراد بما وقع فيه الاختلاف، ويدخل فيه خبر الشخص الواحد دخولًا أوَّليًّا، ولا يَرِد على من عَمِل به ما وقع في حديث الباب من طلب عمر من أبي موسى -رضي الله عنهما- البينة على حديث الاستئذان، فإنه لَمْ يَخْرُج مع شهادة أبي سعيد له وغيره عن كونه خبر واحد، وإنما طلب عمر من أبي موسى البينة؛ للاحتياط، وإلا فقد قَبِل عُمر حديث عبد الرَّحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وحديثه في الطاعون، وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، إلى غير ذلك، وفي "صحيح البخاريّ" من حديث عمر -رضي الله عنه- أنه كان يتناوب النزول على النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يومًا، وهذا يومًا، ويخبر كلّ منهما الآخر بما غاب عنه، وكان غرضه بذلك تحصيل ما يقوم بحاله، وحال عياله؛ ليستغني عن الاحتياج لغيره، وليتقوى على ما هو بصدده من الجهاد.