وتُعُقِّب بأن الدليل أعمّ من الدعوى، وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح، واللهو، وفُحْش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يَمُرّ من النساء، ونحو ذلك.
وحَكَى ابن رُشْد قال: قال مالك: لا يسلّم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم، والتبرّي منهم.
وأما الحُكم الثاني فاختُلِف فيه أيضًا، فقيل: يُستبرأ حاله سنةً، وقيل: ستة أشهر، وقيل: خمسين يومًا، كما في قصة كعب، وقيل: ليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مُدّعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة، ولا يوم، وَيختلف ذلك باختلاف الجناية، والجاني.
وقد اعتَرَض الداوديّ على من حدَّه بخمسين ليلةً أخذًا من قصة كعب، فقال: لم يحدّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخمسين، وإنما أخَّر كلامهم إلى أن أَذِن الله فيه؛ يعني: فتكون واقعة حال لا عموم فيها.
وقال النوويّ: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنباً عظيمًا، ولم يَتُب منه، فلا يُسَلَّم عليهم، ولا يُرَدّ عليهم السلام، كما قال جماعة من أهل العلم، واحتَجَّ البخاريّ لذلك بقصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - انتهى.
قال الحافظ: والتقييد بمن لم يتب جيّد، لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظرٌ، فينه نَدِم على ما صدر منه، وتاب، ولكن أُخّر الكلام معه حتى قَبِل الله توبته، وقضيّته أن لا يُكَلَّم حتى تُقبل توبته.
ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنًا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم، والإقلاع، وأمارة صدق ذلك. انتهى ما في "الفتح"(١).
قال الجامع عفا الله عنه: التي يترجّح عندي من هذه الأقوال أنه لا يسلّم على الفاسق، والمبتدع، ولا يردّ سلامهما إلى أن يتوبا، ولا سيّما إذا كان ذلك يدعوهما إلى التوبة، وليس لذلك حدّ محدود، بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق توبته، لكن هذا إذا لم يترتب عليه ضرر، أما إذا كانا
(١) "الفتح" ١٤/ ١٨٨ - ١٨٩، كتاب "الاستئذان" رقم (٦٢٥٥).