وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: "كن يخرجن بالليل يتبرَّزن إلى المناصع": يتبرَّزن: يخرجن إلى البَرَاز - بفتح الباء - وهو الموضع الذي يُتبرَّز فيه؛ أي: يُظْهَر، والبروز: الظهور، ومنه:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}[الكهف: ٤٧]؛ أي: ظاهرة، مستوية، لا يحجبها شيء، كما قال تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)} [طه: ١٠٧].
و"المناصع": موضع خارج المدينة.
وقوله:"وهو صعيد أفيح"؛ أي: أرض مستوية، متسعة، وذلك كناية عن خروجهن إلى الحدث؛ إذ لم يكن لهم كُنُف في البيوت، كانوا لا يتخذونها استقذارًا، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى خارج البيوت، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع، وقد نصَّت على هذا عائشة رمنها في حديث الإفك. انتهى (١).
(وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: احْجُبْ نِسَاءَكَ)؛ أي: امنعهنّ من الخروج من بيوتهنّ، بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال، كما سبق في الحديث الماضي.
ويَحْتَمِل أن يكون أراد أوّلًا الأمر بستر وجوههن، فلمّا وقع الأمر بوفق ما أراد أحبّ أيضًا أن يحجب أشخاصهنّ مبالغة في التستر، فلم يُجَب لأجل الضرورة، قال الحافظ: وهذا أظهر الاحتمالين.
وقد كان عمر - رضي الله عنه - يَعُدّ نزول آية الحجاب من موافقاته كما سيأتي بيانها قريبًا.
وعلى هذا فقد كان لهنّ في التستر عند قضاء الحاجة حالات:
أولها بالظلمة؛ لأنهن كنّ يخرجن بالليل دون النهار، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث:"كُنّ يخرجن بالليل"، وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك:"فخَرَجت معي أم مِسْطَح قِبَل المناصع، وهو مُتَبَرَّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل". انتهى.
ثم نزل الحجاب، فتستّرن بالثياب، لكن كانت أشخاصهنّ ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية، بعد نزول الحجاب:"أما والله ما تخفين علينا".