١٢ - (ومنها): أن فيه الحكمةَ البالغةَ حيث اختَصَّ بالعقاب مَن كان رأسًا في المنع؛ لأنَّ من عادة الناس الائتمار بأمر كبيرهم، فلما كان رأسهم في المنع اختصّ بالعقوبة دونهم، جزاءً وِفَاقًا، وكأن الحكمة فيه أيضًا إرادة الإجابة إلى ما يلتمسه المطلوب منه الشفاء، ولو كثُر؛ لأنَّ الملدوغ لو كان من آحاد الناس لعله لَمْ يكن يقدر على القدر المطلوب منهم، ذَكَر هذا كلّه في "الفتح"(١)، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن القيّم - رَحِمَهُ اللهُ -: ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصّ، ومنافع مجربةٌ، فما الظنّ بكلام رب العالمين، الذي فضّله على كلّ كلام كفضل الله على خلقه، الذي هو الشفاء التامّ، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أُنزل على جبل لتصدّع من عظمته، وجلالته، قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: ٨٢]، و"مِنْ " ها هنا لبيان الجنس، لا للتبعيض، هذا أصح القولين، كقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح: ٢٩]، وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فما الظنّ بفاتحة الكتاب التي لَمْ يُنزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كُتُب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجا معها، وهي الله، والربّ، والرحمن، وإثبات المعاد، وذِكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذِكر الافتقار إلى الربّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه بذلك، وذِكر أفضل الدعاء على الإطلاق، وأنفعه، وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده، وعبادته بفعل ما أَمَر به، واجتناب ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق، وانقسامهم إلى مُنْعَم عليه بمعرفة الحقّ، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحقّ بعد معرفته له، وضالّ بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة، مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء