للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال أبو عمر بن عبد البرّ -رحمه الله-: وأما رواية أبي النضر: "لا يخرجكم إلا فرارٌ منه"، فقد جعله جماعة من أهل العلم غلطًا، وإحالةً للمعنى، وقال جماعة من أهل العلم بالنحو، وتصاريفه: إن دخول "إلا" في هذا الموضع إنما هو لإيجاب بعض ما نُفِي بالجملة، فكأنه قال: تخرجوا منها؛ يعني: البلدة التي وقع الطاعون بها، إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا، والنصب ها هنا بمعنى الحال، لا بمعنى الاستثناء، والله -عزّ وجلّ- أعلم.

أي: إذا كان خروجكم فرارًا من الطاعون، فلا تخرجوا منها، وفي ذلك إباحة الخروج من موضع الطاعون، إذا لم يكن الخروج قصدًا إلى الفرار من الطاعون. انتهى (١).

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "لا يخرجكم إلا فرارًا منه" رويناه بالنصب، والرفع، وعلى الروايتين فهو مُشْكِل؛ لأنَّه يفيد بحكم ظاهره أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار، وهذا محال، وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعًا، ولمّا ظهر هذا الفساد قيَّده بعض رواة "الموطأ": الإفرار بهمزة مكسورة، وسكون الفاء، توهَّم فيه أنه مصدر، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه لا يقال: أفرُّ -رباعيًّا-، وإنما يقال: فرَّ، ومصدره فرار، ومفرّ، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: ١٦]، وقال: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: ١٠].

وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة: إن إدخال "إلا" فيه غلط، وقال بعضهم: إنها زائدة، كما قد تزاد "لا" في مثل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: ١٢]؛ أي: ما منعك أن تسجد، وقال بعض النحويين: إن "إلا" هنا للإيجاب؛ لأنها توجب بعض ما نفاه من الجملة، ونهى عنه من الخروج، فكأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا، وأباح الخروج لغرض آخر، والأقرب: أن تكون زائدة، والصحيح إسقاطها؛ كما قد صح في الروايات الأخر. انتهى كلام القرطبيّ: -رحمه الله- (٢).


(١) "الاستذكار" ٨/ ٢٥٤.
(٢) "المفهم" ٥/ ٦١٤ - ٦١٥.