للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش، فكَثُرَ القائلين به، مع ما لهم من السنّ، والخبرة، وكثرة التجارب، وسداد الرأي، وحجة الطائفتين واضحة مبيّنة في الحديث، وهما مستمدّان من أصلين في الشرع: أحدهما: التوكل، والتسليم للقضاء، والثاني: الاحتياط والحذر، ومجانبة أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة، قال القاضي: وقيل: إنما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-، كما قال مسلم هنا في روايته عن ابن شهاب: أن سالم بن عبد الله قال: إن عمر إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف، قالوا: ولأنه لم يكن ليرجع لرأي دون رأي، حتى يجد علمًا، وتأول هؤلاء قوله: "إني مُصْبِحٌ على ظهر، فأصبحوا"، فقالوا: أي مسافر إلى الجهة التي قصدناها أوّلًا، لا للرجوع إلى المدينة، وهذا تأويل فاسد، ومذهب ضعيفٌ، بل الصحيح الذي عليه الجمهور، وهو ظاهر الحديث، أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع أوّلًا بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع (١)، مع فضيلة المشيرين به، وما فيه من الاحتياط، ثم بلغه حديث عبد الرحمن، فحمد الله تعالى، وشكره على موافقة اجتهاده، واجتهاد معظم أصحابه نصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما قول مسلم: إنه إنما رجع لحديث عبد الرحمن، فيَحْتَمِل أن سالِمًا لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له، ويَحْتَمِل أنه أراد: لم يرجع إلا بعد حديث عبد الرحمن، والله أعلم. انتهى (٢).

(وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ)، وهو تفقّد أحوال الرعيّة، (وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ) حتى تفعله. (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) قوله: "بقية الناس"؛ أي: الصحابة، أطلق عليهم ذلك تعظيمًا لهم؛ أي: ليس الناس إلا هم، ولهذا عَطَف الصحابة عليهم عطفَ تفسير، ويَحْتَمِل أن يكون المراد ببقية الناس؛ أي: الذين أدركوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عمومًا، والمراد بالصحابة: الذين لازموه، وقاتلوا


(١) هكذا النسخة، والظاهر أن لفظ "ترك" غلط، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(٢) "شرح النوويّ" ١٤/ ٢٠٩ - ٢١٠.