أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبَّباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارةٌ إلى أنها لا تستقلّ، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثّر شيئًا، وإن شاء أبقاها، فأثّرت، ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون أكْله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع المجذوم أنه كان به أمر يَسير، لا يُعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الْجَذْمَى كلهم سواءً، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلًا؛ كالذي أصابه شيء من ذلك، ووقف، فلم يُعْدِ بقية جسمه، فلا يُعدي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية.
قال البيهقيّ بعد أن أورد قول الشافعيّ ما نصّه: الجذام، والبرص، يزعم أهل العلم بالطبّ والتجارب أنه يُعدي الزوج كثيرًا وهو داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبيّن أنه إذا كان مَن وَلَدَه أجذم، أو أبرص، أنه قَلَّما يَسْلَم، وإن سَلِم أدرك نَسْله.
قال البيهقيّ: وأما ما ثبت عن النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:"لا عدوى"، فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالي، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَن به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وقال:"لا يورد مُمْرِض على مُصِحّ"، وقال في الطاعون:"من سَمِع به بأرض، فلا يَقْدَم عليه"، وكل ذلك بتقدير الله تعالي، وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين، ومَنْ بعده، وطائفة ممن قبله.
المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلًا، ورأسًا، وحَمْل الأمر بالمجانبة على حسم المادّة، وسدّ الذريعة؛ لئلَّا يَحْدُث للمخالط شيء من ذلك، فيظنّ أنه بسبب المخالطة، فيُثْبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد، وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: "لا يورد مُمْرِضٌ على مُصِحّ" إثبات العدوي، بل لأن الصحاح لو مَرِضت بتقدير الله تعالي، ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوي، فيَفْتَتِن، ويتشكك في ذلك، فأُمر باجتنابه، قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شَرُّ ما حُمل عليه