فعل الأول أصاب السُّنَّة، وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينًا؛ لأن الأشياء كلها لا تأثير لها، إلا بمقتضى إرادة الله تعالي، وتقديره، كما قال تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة: ١٠٢]، فمن كان قوي اليقين، فله أن يتابعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فعله، ولا يضره شيء، ومَن وَجَد في نفسه ضَعفًا فليتّبع أَمْره في الفرار؛ لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
فالحاصل أن الأمور التي يُتوقع منها الضرر، وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها، فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها، وأما أصحاب الصدق واليقين، فهم في ذلك بالخيار.
قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر؛ لأن الغالب من الناس هو الضَّعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك.
واستُدِلّ بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح، إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء.
وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ: بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام، ولا قائل به.
ورُدّ بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، واختُلِف في أَمَة الأجذم، هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟
واختَلَف العلماء في المجذومين إذا كَثُروا، هل يُمنعون من المساجد، والمجامع؟ وهل يُتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يُمنع، ولا في شهود الجمعة. انتهى ما في "الفتح"(١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب المسالك هو المسلك الخامس، وهو أن المراد بنفي العدوى نفي ما كانت عليه الجاهليّة من زعمهم أن المرض يُعدي بطبعه، لا بتقدير الله تعالي، فردّ عليهم ذلك، فقال:"لا عدوى"، وأمرهم بالفرار من المجذوم، ونهاهم عن إيراد الممرض على المصحّ؛ لئلا يحصل لهم بتقدير الله تعالى؛ إذ جرت سنّة الله تعالى بأن الأسباب تفضي إلى مسبَّباتها، ففيه إثبات الأسباب، وفي أَكْله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع المجذوم
(١) "الفتح" ١٣/ ٩٧ - ١٠٢، كتاب "الطبّ" رقم (٥٧٠٧).