انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنوّ من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوّه من العليل، فيقع فيما أبطله النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العدوي، قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضةٌ لِأَكْله معه؛ لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانًا، وعلى سبيل الإباحة أخري، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، وإنما كان يفعل ما نَهَى عنه أحيانًا لبيان أن ذلك ليس حرامًا.
وقد سلك الطحاويّ في "معاني الآثار" مسلك ابن خزيمة فيما ذكره، فأورد حديث:"لا يورد ممرض على مصحّ"، ثم قال: معناه أن المصحّ قد يصيبه ذلك المرض، فيقول الذي أورده: لو أني ما أوردته عليه لم يُصِبْه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يُورِدْه لأصابه، لكون الله تعالى قدّره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبًا من وقوعها في قلب المرء، ثم ساق الأحاديث في ذلك، فأطنب، وجَمَع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة، ولذلك قال القرطبيّ في "المفهم": إنما نهى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إيراد الممرض على المصحّ مخافةَ الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية، من اعتقاد العدوي، أو مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله:"فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرةً، وكراهيةً لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القُرْب منه، وعلى مجالسته لتأذّت نفسه بذلك، فحينئذ فالأَولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أن لا يُنْجِي حذرٌ مِنْ قَدَر، والله أعلم.
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة؛ لأنه كان ينهى أمته عن كلّ ما فيه ضرر، بأي وجه كان، ويدلّهم على كل ما فيه خير، وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللًا، فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لَمَا فَعَله، قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضَعف المخاطبين، وفِعْله حقيقة الإيمان، فمن