للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

عمر بن عبد البرّ - رحمه الله - (١).

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله: "اقتلوا الحيَّات" هذا الأمر، وما في معناه من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيَّات، فما كان منها متحقَّق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، كما قد أرشد إليه قوله: "اقتلوا الحيَّات، واقتلوا ذا الطُّفيتين، والأبتر؛ فإنَّهما يخطفان البصر، ويُسقطان الحبل"، فخصَّهما بالذِّكر، مع أنَّهما دخلا في العموم، ونبَّه على أن ذلك بسبب عظم ضررهما، وما لم يتحقَّق ضررُه، فما كان منهما في غير البيوت قُتل أيضًا؛ لظاهر الأمر العام في هذا الحديث، وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (٢)؛ ولأن نوع الحيَّات غالبه الضرر فيُستصحب ذلك فيه، ولأنه كلُّه مُرَوِّع بصورته، وبما في النفوس من النُّفرة منه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب الشجاعة، ولو على قتل حيَّة" (٣)، فشجَّع على قتلها. وقال فيما خرَّجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا: "اقتلوا الحيَّات؛ فمن خاف ثأرهنَّ فليس منِّي"، وأما ما كان منها في البيوت، فما كان بالمدينة، فلا يقتل حتى يُؤْذَن ثلاثة أيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منها شيئًا، فآذنوه ثلاثة أيام"، وهل يختصُّ ذلك الحكم بالمدينة؛ لأنَّا لا نعلم هل أسلم من جنِّ غير أهل المدينة أحد أم لا؟ وبه قال ابن نافع. أو لا يختص؟ ويُنْهَى عن قتل جنان جميع البلاد حتى يُؤذَن ثلاثة، وهو قول مالك، وهو الأَولى؛ لعموم نهيه عن قتل الجنان التي تكون في البيوت؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس فواسق يُقتلن في الحلِّ والحرم"، وذَكَر فيهن الحيَّة، ولأنا قد علمنا قطعًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الجنِّ، والإنس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ الرِّسالة للنَّوعين، وأنَّه قد آمن به خَلْق كثير من النوعين؛ بحيث لا يحصرهم بلد، ولا يحيط بهم عدد.

قال: والعجب من ابن نافع؛ كأنه لم تكن له أذن سامع، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا


(١) "التمهيد" لابن عبد البرّ ١٦/ ٢٠ - ٢٤.
(٢) يعني الآتي في الباب.
(٣) ذكر في هامش "المفهم" ما نصّه: ذكره ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" ص ٤٤، ويحتاج إلى النظر في إسناده، والله أعلم.