للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، والله أعلم، فمن خَلَصَت له نيّته في عبادة ربه، ويقينه، وصِدْق حديثه كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك، والله أعلم، قال الله -عَزَّوَجَلَّ-: وَ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: ٥٥]، ثم أخرج بسنده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "كان من الأنبياء من يسمع الصوت، فيكون به نبيًّا، وكان منهم من يرى في المنام، فيكون بذلك نبيًّا، وكان منهم من يُنفَث في أذنه، وقلبه، فيكون بذلك نبيًّا، وإن جبرئيل يأتيني، فيكلمني، كما يكلِّم أحدكم صاحبه".

قال أبو عمر: هذا على أنَّه يكلمه جبريل كثيرًا بالوحي في الأغلب من أمره، وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "إن روح القدس نَفَث في رُوعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُم".

وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قيل له: كيف يأتيك الوحي؟

قال: "يأتيني الوحي أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفْصَم عني، وقد وعيت ما قال"، وقد كان يتراءى له جبريل من السحاب، وكان أولُ ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا، فتأتي كأنها فَلَق الصبح، وربما جاء جبريل في صفة إنسان حسن الصورة، فيكلمه، وربما اشتدّ عليه، حتى يَغِطّ غطيط البَكْر، ويئنّ، ويَحْمَرَّ وجهه، إلى ضروب كثيرة يطول ذكرها.

وقد يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا جزءًا من النبوة؛ لأنَّ فيها ما يُعجِز، ويمتنع؛ كالطيران، وقلب الأعيان، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل.

وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، وأن التصديق بها حقّ، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا أعلم بين أهل الدين والحقّ من أهل الرأي والأثر، خلافًا فيما وصفت لك، ولا ينكر الرؤيا إلَّا أهل الإلحاد، وشِرْذمة من المعتزلة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله (١)، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.


(١) "التمهيد" لابن عبد البرّ ١/ ٢٨٣ - ٢٨٤.