للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله -صلى الله عليه وسلم- "ولن أتعدَّى أمر الله فيك" كذا في جميع نُسخ كتاب مسلم، وفي البخاري: "ولن تعدوَ أمر الله فيك"، وكلاهما صحيح، ومعنى الأول: أن الله تعالى أمر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يغلِّظ القولَ لمسيلمة، وأن يُصرِّح بتكذيبه، وأن يخبره بأنه لا يَبْلغ أَمَله مما يريده من التشريك في الرسالة، ولا في الأرض، فلم يتعدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ إذ قد فعل كل ذلك. ويَحْتَمِل أن يريد بالأمر: ما كتب الله تعالى عليه من الشِّقوة، وما وَسَمه به من الكذب والتكذيب، والأفعال القبيحة؛ أي: لا أقدر أن أردَّ ما كتب الله عليك من ذلك؛ غير أن هذا المعنى أظهر من لفظ البخاريّ منه من لفظ كتاب مسلم. انتهى (١).

(وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ)؛ أي: خالفت الحقّ، (لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ) بالقاف؛ أي: ليُهلكنّك الله؛ أي: إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنّك الله، والعَقْر: القتل، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: ٧٧]: قتلوها، وقتله الله تعالى يوم اليمامة، وهذا من معجزات نبوة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، وصحّة رسالته.

(وَإِنِّي لأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: الرواية "لأراك" بضم الهمزة، بمعنى أظنك، على ما قد حصل لهذه الصيغة من غلبة عُرف الاستعمال، وقد قررنا: أن أصل "أُرَى" من "رَأَى"؛ بمعنى: عَلِم، أو أبصر، أُدخلت عليه همزة التعدية، وبُنِيَت لِمَا لم يُسَمَّ فاعله، وعلى هذا فيصح أن تكون هنا بمعنى العلم، فيكون معناه: إني لأعلم أنك الذي أريت فيه ما أريت، وهذا أَولى بحال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ رؤياه حقّ، وتأويله لا يجوز عليه الغلط، بخلاف غيره، والله تعالى أعلم. انتهى (٢).

وقوله: (أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ) بضمّ أوله، وكسر الراء، يأتي شرحه في كلام ابن عبّاس -رضي الله عنهما-. (وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي")؛ أي: لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد أعطي جوامع الكلم، فاكتفى بما قاله لمسيلمة، وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب، فهذا الخطيب يقوم عني في ذلك، ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد، ونحو ذلك.


(١) "المفهم" ٦/ ٤٢.
(٢) "المفهم" ٦/ ٤٣.