إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق كما قال:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الآية [النساء: ١٦٣]، ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إسماعيل كنانة كما ذكرهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، ثم إن الله تعالى ختمهم بختامهم، وأمَّهم بإمامهم، وشرَّفهم بصدر كتيبتهم، وبيت قصيدتهم، شمس ضحاها، هلال ليلتها، درِّ تقاصِيرها، زبرجدها، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، أخَّره عن الأنبياء زمانًا، وقدّمه عليهم رتبة ومكانًا، جعله الله واسطة النظام، وكمَّل بكماله أولئك الملأ الكرام، وخصَّه من بينهم بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فهو شفيعهم إذا استَشْفَعُوا، وقائدهم إذا وَفَدوا، وخطيبهم إذا جُمِعُوا، وسيِّدهم إذا ذُكِروا، فاقتبس من الخير عيونه، فبيده لواء الحمد، تحته آدمُ، فمن دونه، ويكفيك أُثْرَةً وكرامة:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"، وقد تبيّن للعقل والعيان ما به كان محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد نوع الإنسان.
وقد ثبت بصحيح الأخبار ما له من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال:"أنا سيد ولد آدم"، قال:"وتدرون بم ذاك؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:"إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد"، وذكر حديث الشفاعة المتقدم. ومضمونُهُ: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة، وطال عليهم، وعظم كربهم طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدؤون بآدم -عَلَيْهِ السَّلامُ-، فيسألونه الشفاعة، فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سُئِلها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيقول:"أنا لها"، فيقوم في أرفع مقام، ويُخصُّ بما لا يُحصى من المعارف والإلهام، ويُنادَى بألطف خطاب، وأعظم إكرام: يا محمد! قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، وهذا مقام لم ينله أحدٌ من الأنام، ولا سُمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام، فنسال الله تعالى باسمه العظيم، وبوجهه الكريم أن يحيينا على شريعته، ويميتنا على ملته، ويحشرنا في زمرته، ولا يجعلنا ممن ذِيد عنه، وبُعِّدَ منه. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (١)، وهو بحث نفيسٌ وتحقيقٌ أنيس؛ والله تعالى أعلم.