للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

٥ - (ومنها): ما قاله الطيبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: في الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست مكتسبةً، بل هي مواهب ربّانيّة، يختصّ بها من يشاء، وكمالها أن يُفيض الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليها من المشكاة النبويّة، فإذا وُجِد من يشتغل بغير الكتاب والسُّنَّة، وما والاهما عُلم أن الله تعالى لَمْ يُرد به خيرًا، فلا يُعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي عَلِمَ، وعَمِلَ، ثم عَلَّم، وأن فاقد أحدهما فاقد لهذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيدهم بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لَمْ يَحظ منه بطائل؛ كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرّدًا عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقي، ولو منعهما معًا كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقّيها، كما قال [من الطويل]:

وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ … وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ (١)

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في المَثَل المضروب في هذا الحديث:

قد تقدّم ما قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ- في "شرحه"، وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: مقصود هذا الحديث ضَرْبُ مَثَل لِمَا جاء به النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلم والدِّين، ولمن جاءهم بذلك، فشبَّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يُحييهم، ويُغيثهم، ثم شبَّه السامعين له بالأرض المختلفة؛ فمنهم: العالم العامل المعلِّم، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شَرِبت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم، الحافظ له، المستغرق لزمانه في جَمْعه ووعيه؛ غير أنه لَمْ يتفرغ للعمل بنوافله، ولا ليتفقه فيما جَمَع، لكنه أدَّاه لغيره كما سمعه، فهذا بمنزلة الأرض الصَّلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، فيشربون ويَسقون، وهذا القسم: هو الذي قال فيه النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نضَّر الله امرءًا سمع مني حديثًا، فبلَّغه غيره، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه" (٢).


(١) "الكاشف عن حقائق السُّنن" ٢/ ٦١٨.
(٢) حديث صحيح، رواه أحمد ١/ ٤٣٧، والترمذيّ (٢٦٥٧)، وابن ماجة (٢٣٢).