للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لا يقال: فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها، ولم تشرب في نفسها يقتضي إلا تكون عملت بما لزمها من العلم ولا من الدِّين، ومن لَمْ يقم بما وجب عليه من أمور الدِّين، فلا يُنسب للعلماء، ولا للمسلمين؛ لأنَّا نقول: القيام بالواجبات ليس خاصًّا بالعلماء، بل: يستوي فيها العلماء، وغيرهم، ومن لَمْ يقم بواجبات عِلْمه كان من الطائفة الثالثة التي لَمْ تشرب، ولم تُمسك؛ لأنَّه لمّا لَمْ يعمل بما وجب عليه لَمْ ينتفع بعلمه، ولأنه عاص، فلا يصلح للأخذ عنه. انتهى (١).

وقال في "الفتح": قال القرطبيّ وغيره: ضرب النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا جاء به من الدين مَثَلًا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لَمْ يعمل بنوافله، أو لَمْ يتفقه فيما جَمَع، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضر الله امرأ سمع مقالتي، فأداها كما سمعها"، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السَّبْخَة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها، وإنما جَمَع في المَثَل بين الطائفتين الأُوليين المحمودتين؛ لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة؛ لعدم النفع بها، والله أعلم.

قال الحافظ: ثم ظهر لي أن في كلّ مَثَل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأُولى منه مَن دخل في الدين، ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به، ولم يعلّمه، ومثالها من الأرض: السباخ، وأشير إليها بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من لم يرفع بذلك رأسًا"؛ أي: أعرض عنه، فلم ينتفع به، ولا نفع، والثانية منه من لَمْ يدخل في الدين أصلًا، بل بلغه، فكفر به، ومثالها من الأرض: الصمّاء


(١) "المفهم" ٦/ ٨٣ - ٨٤.