الأول، ولا يدلّ على شفقة، فأما تقبيل الرأس، فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم، وأما تقبيل اليد فكرهه مالك، ورآه من باب الكِبْر، وإذا كان ذلك مكروهًا في اليد كان أحرى وأَولى في الرِّجْل، وقد أجاز تقبيل اليد والرِّجل بعض الناس، مستدلًّا بأن اليهود قبَّلوا يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجليه حين سألوه عن مسائل، فأخبرهم بها، ولا حجة في ذلك؛ لأنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد نزهه الله عن الكِبْر، وأُمِنَ ذلك عليه، وليس كذلك غيره؛ ولأن ذلك أظهر من اليهود تعظيمه، واعتقادهم صدقه، فأقرَّهم على ذلك ليبيِّن للحاضرين -بإذلالهم أنفسهم له- ما عندهم من معرفتهم بصدقه، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد، ولو فَهِمت الصحابة -رضي الله عنهم- جواز تقبيل يده، ورِجله لكانوا أوَّل سابق إلى ذلك، فيفعلون ذلك به دائمًا، وفي كل وقت، كما كانوا يتبركون ببزاقه، ونخامته، ويدلكون بذلك وجوههم، ويتطيّبون بعرقه، ويقتتلون على وَضُوئه، ولم يُرْوَ قطُّ عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قبّل له يدًا ولا رجلًا؛ فصحَّ ما قلناه، والله وليّ التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ (١).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من نفيه ثبوت تقبيل اليد والرِّجل ليس كما زعم، بل هو ثابت عنه -صلى الله عليه وسلم-، من وجوه كثيرة.
قال ابن بطّال -رحمه الله-: اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك، وأنكر ما روي فيه، وأجازه آخرون واحتجوا بما رُوي عن ابن عمر أنهم لما رجعوا من الغزو حيث فَرّوا قالوا: نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العَكّارون، أنا فئة المؤمنين، قال: فقبّلنا يده، قال: وقبّل أبو لبابة، وكعب بن مالك، وصاحباه يد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين تاب الله عليهم، ذكره الأبهريّ، وقبّل أبو عبيدة يد عمر حين قدم، وقبّل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه.
قال الأبهريّ: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدِينه، أو لِعلمه، أو لِشرفه، فإن ذلك جائز، قال ابن بطال: وذكر الترمذيّ من حديث صفوان بن عسال: "أن