"الجعديّات"(١٠٢٩)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(١٠/ ١٩٢) و"دلائل النبوّة"(١/ ٣١٦) وفي "الأدب"(٢٠٠)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(٣٦٩٣)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
١ - (منها): بيان ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من شدّة الحياء حتى كان أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها، ولكن هذا الحياء فيما يتعلّق بالحظوظ النفسيّة، وأما ما يتعلّق بالحقوق الدينيّة؛ كانتهاك حرمات الله تعالى، أو انتهاك حرمة أحد من المسلمين، فإنه أشدّ الناس غضبًا لذلك، وإزالةً له بالقول، والفعل، دون استحياء من أحد من الناس، بل إنما يستحيي في ذلك من الله -سبحانه وتعالى-، لا من أحد غيره.
٢ - (ومنها): بيان كون صفة الحياء خُلُقًا عاليًا يَشْرُف به الإنسان، فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله:"الحياء من الإيمان"، و"الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء خير كلّه"، وكلها في الصحيح، قال أبو عبيد الهرويّ: إنما كان الحياء من الإيمان أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي، قال عياض وغيره: إنما جُعِل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزةً؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد، واكتساب، وعلم.
وأما كونه خيرًا كله، ولا يأتي إلا بخير، فأشكل حَمْله على العموم؛ لأنه قد يَصُدّ صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات، ويَحمله على الإخلال ببعض الحقوق.
والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياءً شرعيًّا، بل هو عجز، ومَهانةٌ، وإنما يُطلق عليه حياءٌ؛ لمشابهته للحياء الشرعيّ، وهو خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون أُشيرَ إلى أن من كان الحياء من خُلقه أن الخير يكون فيه أغلب، فيضمحلّ ما لعله يقع منه، مما ذُكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادةً، وتخلّق به صاحبه يكون سببًا لجلب الخير إليه، فيكون منه الخير بالذات والسبب.