الرَّجُل على الرَّجُل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا يَتَفَلَّتُ مني".
قال الحافظ -رَحمه اللهُ-: وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} الآية [القيامة: ١٦]، فإن الملَك قد تمثّل رجلًا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحاح.
وأُورِدَ على ما اقتضاه الحديث -وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي؛ كمجيئه كدَوِي النحل، والنَّفْثِ في الرُّوع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة.
وإما من حامل الوحي؛ كمجيئه في صورته التي خُلِق عليها، له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض، وقد سَدّ الأفق.
والجواب: مَنْع الحصر في الحالتين المتقدِّم ذِكرهما، وحَمْلهما على الغالب، أو حَمْل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لِنُدُورهما، فقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بَيَّنَ بها صفة الوحي، لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي، فدويّ النحل لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يُسمَع عنده كدويّ النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فشبَّهه عمر بدويّ النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبَّهه هو -صلى الله عليه وسلم- بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما النَّفْث في الرُّوع، فيَحْتَمِل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملَك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في رُوعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه؛ لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة، فقال ابن بطال: لا تَرِدُ؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يَشرَكُهُ فيها غيره. انتهى.