للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خضَبَ، متمسّكين في ذلك بما رواه أبو داود، عن أبي رِمْثَة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو ذو وَفْرة، وبها رَدعٌ من حنّاء، وعليه بُردان أخضران.

وروى أبو داود أيضًا عن زيد بن أسلم أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بها. . . الحديث. ويعتضد هذا بأمره -صلى الله عليه وسلم- بتغيير الشيب، كما قال: "غيّروا هذا الشيب، واجتنبوا السواد"، وقال: "غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود"، وما كان -صلى الله عليه وسلم- يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به.

ومما يعتضد به ذلك ما رواه البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قال: "دخلت على أم سلمة -رضي الله عنها-، فأخرجت لنا شعرات من شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مخضوبًا"، زاد ابن أبي شيبة: "بالحنّاء والكتم"، والإسناد واحد.

ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين -رضي الله عنهما-، فلو علما أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يختضب لَمَا اختضبا، فإنهما ما كانا باللذين يَعدِلان عن سُنَّته، ولا عن اتّباعه، والفصل لهؤلاء من أحاديث أنس، وما في معناه: بأن الخضاب لم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- دائمًا، ولا في كلّ حالٍ، وإنما كان في بعض الأوقات، فلم يلتفت أنس -رضي الله عنه- لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول. وأَولى من هذا أن يقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- لمّا لم يكن شَيْبه كثيرًا، وإنما كان في لحيته، وصُدْغيه نحو العشرين شعرةً بيضًا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.

وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رِمْثة، وابن عمر -رضي الله عنهم- بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحنّاء، وإنما كان تغييرًا بالطيب، ولذلك قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان يصبغ بالصفرة"، ولم يقل: بالحنّاء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة -رضي الله عنه-: "ردْعٌ من حنّاء"؛ لأنه شبّهها بها، وأما حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، فيَحْتَمِل أن يكون ذلك فُعل بِشَعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده بطيب، أو غيره؛ احترامًا، وإكرامًا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (١).


(١) "المفهم" ٦/ ١٣١ - ١٣٢.