للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

إنما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا؛ لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة، فإنَّه لم يكن ممن عانى الزراعة، ولا الفلاحة، ولا باشر شيئًا من ذلك، فخفيت عليه تلك الحالة، وتمسَّكَ بالقاعدة الكلية المعلومة التي هي: أنه ليس في الوجود، ولا في الإمكان فاعل، ولا خالق، ولا مؤثِّر إلا الله تعالى، فإذا نُسِب شيء إلى غيره نسبة التأثير فتلك النسبة مجازية، عرفيَّة، لا حقيقيَّة، فصدق قوله: "ما أظنّ ذلك يغني شيئًا"؛ لأن الذي يغني في الأشياء عن الأشياء بالحقيقة هو الله تعالى، غير أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن سَتَر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها مقارنة لها، ومغطاة بها؛ لِيُؤْمِن من سبقت له السعادة بالغيب، وليضلّ من سبقت له الشقاوة بالجهل، والرَّيب: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: ٤٢]. انتهى (١).

(قَالَ) طلحة بن عبيد الله (فَأُخْبِرُوا)؛ أي: أصحاب النخل (بِذَلِكَ)؛ أي: بما قاله النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما أظنّ يغني ذلك شيئًا"، (فَتَرَكُوهُ)؛ أي: تركوا التلقيح عملًا بظنّه -صلى الله عليه وسلم-، (فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ)؛ أي: بما حصل لهم من كون النخل أخرج شيصًا، ولم يُثمر ثمرًا طيّبًا. (فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ)؛ أي: التلقيح، (فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظنَنْتُ ظنًّا)؛ أي: إنما أشرت عليهم بتركه لأجل ظنّ مني أنه لا ينفع، (فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ)، وفي الأخرى: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر"، قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: هذا كله منه -صلى الله عليه وسلم- اعتذار لمن ضَعُف عقله مخافةَ أن يُزِلَّه الشيطان، فيُكَذِّب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فيكفر، وإلا فما جرى شيء يحتاج فيه إلى عذر، غايةُ ما جرى مصلحة دنيوية، خاصَّة بقوم مخصوصين، لم يعرفها من لم يباشرها، ولا كان من أهلها المباشرين لعملها، وأوضحُ ما في هذه الألفاظ المعتذَر بها في هذه القصة قوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وكأنه قال: وأنا أعلم بأمر دينكم. انتهى (٢).

(وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا)؛ أي: عن الأحكام الشرعيّة، أو عن الأمور الغيبية التي تأتيني من عند الله تعالى وحيًا، (فَخُذُوا بِهِ) فإنه حقّ


(١) "المفهم" ٦/ ١٦٨.
(٢) "المفهم" ٦/ ١٦٨ - ١٦٩.