للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

القلب، وفي التصريح بالصُّراخ إشارة إلى أن المسّ عبارة عن إصابة ما يؤذيه، ويؤلمه، لا كما زعمت المعتزلة أن مسّ الشيطان تخييلٌ، واستهلاله صارخًا من مسّه تصوير لِطَمَعه فيه، كأنه يمسّه، ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أُغويه.

وأما قول ابن الروميّ:

لَمَّا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا … يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ

إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّهُ … بِمَا هُوَ لَاقٍ مِنْ أَذَاهَا يُهَدَّدُ

وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهُ … لأَوْسَعُ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَأَرْغَدُ

فمن باب حسن التعليل، فلا يستقيم تنزيل الحديث عليه، على أنه لا ينافيه. انتهى (١).

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن الروميّ هذا لا يخفى كونه خلاف الحديث، وما حَمَله عليه إلا جهله بالحديث، على أنه يمكن حَمْل ما قاله على لسان الحال، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: "ما من مولود"، وكذا: "كلُّ مولود" ظاهرٌ قويّ في العموم والإحاطة، ولَمّا استَثنَى منه مريم وابنها التحق بالنصوص، فأفاد هذا أن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء، والأولياء، إلا مريم وابنها، وإن لم يكن كذا بطلت الخصوصية بهما، ولا يُفهم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس، وإغواؤه؛ فإنَّ ذلك فاسد، فكم قد تعرض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، والإغواء، ومع ذلك يعصمهم الله تعالى مما يرومه الشيطان، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الإسراء: ٦٥] هذا، مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكِّل به قرينُه من الشياطين، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا فمريم وابنها -وإن عُصما من نخسه- فلم يُعصما من ملازمته لهما، ومقارنته، وقد خصَّ الله تعالى نبينا -صلى الله عليه وسلم- بخاصيَّة كَمَّل عليه بها إنعامه بأن أعانه على شيطانه، حتى صحَّ إسلامه، فلا يكون عنده شرٌّ، ولا يأمره إلا بخير، وهذه خاصَّة لم يؤتها أحدٌ غيره، لا


(١) "الكاشف عن حقائق السُّنن" ٢/ ٥٢٢.