للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بالتمكن والتسليط، وحَفِظ الله تعالى مريم وابنها من نخسته تلك التي هي ابتداء التسليط ببركة إجابة دعوة أمها حين قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: ٣٦]، فاستجاب الله لها لِمَا حضرها في ذلك الوقت من صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وصحة التوكل، وأمها هي امرأة عمران، واسمها حنَّه بنت فاقود، وكانت لمّا حملت نذرت، وأوجبت على نفسها أن تجعل ما تلده مُنَزَّهًا منقطعًا للعبادة، لا يشتغل بشيء مما في الوجود، على شريعتهم في الرهبانية، وملازمتهم الكنائس، وانقطاعهم فيها إلى الله تعالى بالكلية، ولذلك لمّا ولدتها أنثى قالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: ٣٦]؛ أي: فيما نذرته له من الرهبانية. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (١).

(إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى (وَأمَّهُ") مريم -عَلَيْهِمَا السَّلام-، وقد جاء في رواية للبخاريّ بيان المس المذكور، ولفظه: "كلُّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب أي: في المشيمة التي فيها الولد (٢)، قال القرطبيّ: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها، حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: ٣٦]، ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- (٣).

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ المذكورة آنفًا بلفظ: "غير عيسى ابن مريم"، بذكر عيسى خاصّة، قيل: يَحْتَمِل أن يكون ذاك قبل الإعلام بما زاد، وفيه بُعْد؛ لأنه حديث واحد، وقد رواه خلاس عن أبي هريرة بلفظ: "كلُّ بني آدم قد طَعَن الشيطان فيه حين وُلد، غير عيسى وأمه، جعل الله دون الطعنة حجابًا، فأصاب الحجاب، ولم يُصِبْهما"، وقيل غير ذلك.

قال الحافظ: والذي يظهر أن بعض الرواة حَفِظ ما لم يحفظ الآخر،


(١) "المفهم" ٦/ ١٧٧.
(٢) قال في "الفتح" في موضع آخر: المراد بالحجاب: الجلدة التي فيها الجنين، أو الثوب الملفوف على الطفل. انتهى.
(٣) "الفتح" ٨/ ٥٢، كتاب "الأنبياء" رقم (٣٤٣١).