للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

[وثانيهما]: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك قبل أن يعلم بمنزلته عند الله تعالى، ثم إنه أُعلم بأنه أكرم، وأفضل، فأَخبر به كما أُمر، ألا ترى أنه كان في أول أمره يسأل أن يبلغ درجة إبراهيم من الصلاة عليه، والرحمة، والبركة، والخلة، ثم بعد ذلك أخبرنا بأن الله تعالى قد أوصله إلى ذلك لمّا قال: "إن الله تعالى قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا"، ثم بعد ذلك زاده الله من فضله، فشرَّفه، وكرَّمه، وفضّله على جميع خَلْقه.

وقد أُورد على كل واحد من هذين الوجهين استبعاد، قالوا: رُدَّ على الأول، أن قيل: كيف يصح من الصادق المعصوم أن يُخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ لأجل التواضع والأدب؟ والوارد على الثاني: أن ذلك خبر عن أمر وجودي، والأخبار الوجودية لا يدخلها النسخ.

والجواب عنهما: أن يقال: إن ذلك ليس إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فإنه تَوَاضَعَ بمنع إطلاق ذلك اللفظ عليه، وتأدَّب مع أبيه بإضافة ذلك اللفظ إليه، ولم يتعرض للمعنى، فكأنه قال: لا تُطلقوا هذا اللفظ عليّ، وأطلقوه على أبي إبراهيم أدبًا معه، واحترامًا له، ولو صرَّح بهذا لكان صحيحًا غير مستبعَد، لا عقلًا، ولا نقلًا، وهذا كما قال: "لا تفضّلوني على موسى"؛ أي: لا تقولوا: محمد أفضل من موسى؛ مخافةَ أن يُخيَّل نقص في المفضول، كما قدَّمناه، ويأتي.

فقد أظهر هذا البحث: أن ذلك راجع إلى منع إطلاق لفظ وإباحته، فذلك خبر عن الحكم الشرعيّ، لا عن المعنى الوجوديّ، وإذا ثبت ذلك جاز رَفْعه، ووَضْعه، وصحَّ الحكم به، ونَسْخه من غير تعرُّض للمعنى، والله أعلم.

سلَّمنا أنه خبر عن أمر وجوديّ، لكن لا نسلّم أن كل أمر وجوديّ لا يتبدل، بل منها ما يتبدل، ولا يلزم من تبدله تناقض، ولا محال، ولا نَسْخ؛ كالإخبار عن الأمور الوضعية.

وبيان ذلك: أن معنى كون الإنسان مكرَّمًا مفضلًا؛ إنما ذلك بحسب ما يُكرَّم به، ويُفضل على غيره، ففي وقت يُكرَّم بما يُساوي فيه غيره، وفي وقت يزاد على ذلك الغير، وفي وقت يُكرَّم بشيء لم يُكرَّم به أحد، فيقال في المنزلة الأولى: مُكرَّم، مُقرَّب، وفي الثانية: مُفضَّل بقيد، وفي الثالثة: مُفضَّل مطلقًا،