فمعناه: أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فَهْم المخاطَب والسامع، وأما في نفس الأمر فليست كذبًا مذمومًا؛ لوجهين:
أحدهما: أنه وَرَّى بها، فقال في سارة: أختي في الإسلام، وهو صحيح في باطن الأمر.
والوجه الثاني: أنه لو كان كذبًا لا تورية فيه، لكان جائزًا في دفع الظالمين، وقد اتَّفَقَ الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مختفيًا ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبًا، وسأل عن ذلك وجب على من عَلِم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم، فنبَّه النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنَّ هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم.
قال المازريّ: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبًا، قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال النوويّ: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يَمتنع؛ لورود الحديث به، وأما تأويلها فصحيح، لا مانع منه.
قال العلماء: والواحدة التي في شأن سارة هي أيضًا في ذات الله تعالى؛ لأنَّها سببُ دَفْعِ كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة، وقد جاء ذلك مفسَّرًا في غير مسلم، فقال:"ما فيها كذبة إلَّا يُماحِل بها عن الإسلام"؛ أي: يجادل، ويدافع، قالوا: وإنما خَصَّ الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى؛ لكون الثالثة تضمَّنت نفعًا له، وحظًّا مع كونها في ذات الله تعالى، وذكروا في قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ}؛ أي: سأسقم؛ لأنَّ الإنسان عُرْضة للأسقام، وأراد بذلك الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم، وشهود باطلهم، وكفرهم، وقيل: سقيم بما قُدِّر عليّ من الموت، وقيل: كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت.
وأما قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، فقال ابن قتيبة، وطائفة: جعل النطق شرطًا لِفعل كبيرهم؛ أي: فَعَله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقال الكسائيّ: يوقف عند قوله: {بَلْ فَعَلَهُ}؛ أي: فعله فاعله، فأضمر، ثم يبتدئ، فيقول: