للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فسقةٌ؛ لأن موجبات القتل مضبوطة، ولم يَجْرِ منه -رضي الله عنه- ما يقتضيه، ولم يشارك في قَتْله أحد من الصحابة، وإنما قَتَله هَمَجٌ، ورَعَاع من غوغاء القبائل، وسِفْلة الأطراف، والأرذال، تحزبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دَفْعهم، فحصروه حتى قتلوه -رضي الله عنه-.

وأما عليّ -رضي الله عنه-، فخلافته صحيحة بالإجماع، وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره، وأما معاوية -رضي الله عنه- فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء -رضي الله عنه-.

وأما الحروب التي جرت، فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول -رضي الله عنهم-، ومتأولون في حروبهم، وغيرها، ولم يُخْرِج شيء من ذلك أحدًا منهم عن العدالة؛ لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء، وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم.

(واعلم): أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختَلَف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغٍ، فوجب عليهم نُصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحلّ لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته، وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية، وتحيَّروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحقّ لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه لَمَا جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون -رضي الله عنهم-، ولهذا اتفق أهل الحقّ، ومن يُعتدّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم -رضي الله عنهم أجمعين-. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ- (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيس، والله تعالى أعلم.


(١) "شرح النوويّ" ١٥/ ١٤٨ - ١٤٩.