(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في أولهم إسلامًا:
(اعلم): أنه اختَلَف السلف من الصحابة والتابعين، فمَن بَعْدَهم في أيّ الصحابة أول إسلامًا؟ على أقوال: فقيل: أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، حُكي عن ابن عباس، والنخعيّ، وغيرهما؛ لقوله -كما في الترمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ عنه-: ألستُ أول من أسلم؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة حين سأله: من معك على هذا الأمر؟: "حُرّ، وعبدٌ"؛ يعني: أبا بكر، وبلالًا، ولقول الشعبيّ لمن سأله عن ذلك: أما سمعت قول حسان [من الطويل]:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ … فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرَ الْبَرِيِّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا … بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدَهُ … وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صًدَّقَ الرُّسُلَا
ويقول أبي مِحْجَن الثقفيّ [من الطويل]:
وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُلُّ مُهَاجِرٍ … سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ
سَبَقْتَ إِلَى الإِسْلَامِ وَاللهُ شَاهِدٌ … وَكُنْتَ جَلِيسًا فِي الْعَرِيشِ الْمُشَهَّرِ
وقيل: بل عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ لقوله على المنبر: "اللهم لا أعرف عَبَدَك قبلي غير نبيك -ثلاث مرات- لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعًا"، وسنده حسن.
ولقوله مما أنشده القُضاعيّ [من الوافر]:
سَبَقْتُكُمُ إِلَى الإِسْلَامِ طُرًّا … صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي
ولِمَا رُوي في ذلك عن أنَس، وجابر، وخَبّاب، وخزيمة، وزيد بن أرقم، وسلمان، وابن عباس، ومعقل بن يسار، والمقداد بن الأسود، ويعلى بن مرّة، وأبي أيوب، وأبي ذرّ، وأبي رافع، وأبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنهم-، في آخرين.
وقد ادّعى الحاكم الإجماع على هذا القول حيث قال في "علوم الحديث" له: لا أعلم فيه خلافًا بين أصحاب التواريخ، وإنما اختلفوا في بلوغ عليّ، وقد استُنكر منه هذا، كما قاله ابن الصلاح، وقال ابن كثير: إنه لا دليل على إطلاق الأولية فيه من وجه صحيح، هذا مع أن الحاكم قال بعد حكايته للإجماع: والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين؛ لحديث عمرو بن عبسة الماضي.