فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال: هنا انقطع الأثر، فنظروا، فإذا بالعنكبوت قد نَسَج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن قَتْله، فلما رأوا نَسْج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مائة ناقة لمن ردّه عليهم.
الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة.
وقد رُوي من حديث أبي الدرداء وثوبان -رضي الله عنهما- أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أمر حمامة، فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردّهم ذلك عن الغار (١).
وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: كان من قصة الغار أن المشركين اجتمعوا لقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبيّتوه في داره، فأمَر عليًّا -رضي الله عنه-، فرقد على فراشه، وقال له:"إنهم لن يضروك"، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم على بابه، فأخذ الله أبصارهم عنه، ولم يَرَوْه، ووضع على رأس كل واحد منهم ترابًا، وانصرف عنهم خارجًا إلى غار ثور، فاختفى فيه، فأقاموا كذلك حتى أخبرهم مُخْبِرٌ أنه قد خرج عليهم، وإنه وضع على رؤوسهم التراب، فمدُّوا أيديهم إلى رؤوسهم، فوجدوا التراب، فدخلوا الدَّار، فوجدوا عليًّا على الفراش، فلم يتعرضوا له، ثم خرجوا في كل وجه يطلبون النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ويقتصّون أثره بقائف كان معروفًا عندهم، إلى أن وصلوا إلى الغار، فوجدوه قد نسجت عليه العنكبوت من حينه، وفَرَخت فيه الحمام بقدرة الله تعالى، فلما رأوا ذلك قالوا: إن هذا الغار ما دخله أحدٌ، ثم إنهم صَعِدوا إلى أعلى الغار، فحينئذ رأى أبو بكر -رضي الله عنه- أقدامهم، فقال بلسان مقاله مفصحًا عن ضَعف حاله: لو نظر أحدهم إلى قدميه أبصرنا، فأجابه من تدلَّى، فدنا بما يُذهب عنه الخوف والضَّنى، بقوله:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة: ٤٠]؛ أي: بالحفظ والسلامة، والصَّون والكرامة، ثم إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أقام في الغار ثلاثة حتى تجهَّز، ومنه هاجر إلى المدينة، وكلّ ذلك من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ثقة بوعد الله تعالى، وتوكُّل عليه، ودليل على خصوصيَّة أبي بكر من الخلَّة، وملازمة الصُّحبة في أوقات