للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وبعدُ فلو كانت هذه الأخبار التي ذكرناها عن المنكدر بن محمد، عن الحسن، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحاحًا لم يكن فيها لمحتج بها حجة في إبطال ما روينا عن عليّ والزبير -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخبرين اللذين ذكرناهما عنه أنه فدى من فدى بأبويه، ولا كان في ذلك دلالة على أن قِيْلَ ذلك غير جائز؛ إذ لا بيان فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى الزبير عن قول ذلك له، بل إنما فيه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أما تركت أعرابيتك بعدُ"، والمعروف من قول القائل إذا قال: إن فلانًا لم يترك أعرابيته بعدُ أنه إنما نَسَبه إلى الجفاء، لا إلى فِعل ما لا يجوز فعله، فلو صح خبر الحسن الذي رواه عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله ما قال الزبير لم يَعْدُ أن يكون ذلك كان من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نسبة لقول الزبير الذي قال له إلى الجفاء، وإعلامًا منه له أن غيره من القول، والتحية ألطف، وأرقّ منه.

وقد روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد لا تُشبه أسانيد خبر الحسن في الصحة أنهم قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جعلنا الله فداك، فلم يُنْكِر ذلك عليهم. انتهى كلام الطبريّ -رحمه الله - (١).

وقال البخاريّ -رحمه الله - في "صحيحه": باب قول الرجل: "جعلني الله فداك"، قال في "الفتح"؛ أي: هل يباح، أو يكره؟ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك، فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه، ولكبيره، ولذوي العلم، ولمن أحب من إخوانه، غيرُ محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره، واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قائل ذلك، ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره.

قال الطبريّ: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك، وأما ما رواه مبارك بن فَضَالة عن الحسن: "قال: دخل الزبير على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو شاكٍ، فقال: كيف تجدك؟ جعلني الله فداك، قال: ما تركت أعرابيتك بعدُ"، ثم ساقه من هذا الوجه، ومن وجه آخر، ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة، وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح


(١) "تهذيب الآثار" ٣/ ١١٣.