للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الغيرة التي عُفي عنها للنساء في كثير من الأحكام، كما سبق؛ لعدم انفكاكهنّ منها، حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحدّ إذا قَذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة، قال: واحتُجّ بما روي عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ أنه قال: "ما تدري الغيرى أعلى الوادي من أسفله"، ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه؛ لأن الغضب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهَجْره كبيرة عظيمة، ولهذا قالت: "لا أهجر إلا اسمك"، فدلّ على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء؛ لفرط المحبة. انتهى (١).

(إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى") بفتح الغين المعجمة، والقصر تأنيث غضبان. (قَالَتْ) عائشة: (فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى، قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ) عائشة: (قُلْتُ: أَجَلْ) كنعم وزنًا ومعنًى، قال الأخفش: إلا أن "نعم" أحسن من "أجل" في جواب الاستفهام، و"أجل" أحسن من "نعم" في التصديق، قال الحافظ: وهو في الحديث على وفق ما قال. انتهى (٢).

وقال القرطبيّ: "أجل"؛ تعني: نعم، وتعني بذلك أنها، وإن أعرضت عن ذكر اسمه في حالة غضبها، فقلبها مغمور بمحبته -صلى الله عليه وسلم- لم يتغيَّر منها شيء. وفي هذا ما يدلّ على ما كانا عليه من صفاء المحبة وحُسن العشرة، وفيه ما يدلّ على: أن الاسم غير المسمَّى، وهي مسألة اختلف فيها أهل اللسان والمتكلمون، وللكلام فيها مواضع أخر. انتهى (٣).

(وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا) نافية، (أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ) قال الطيبيّ -رحمه الله-: هذا الحصر لطيف جدًّا؛ لأنها أخبرت أنها إذا كانت في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره، لا تتغير عن المحبة المستقرّة، فهو كما قيل [من الكامل]:

إِنِّي لأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وإنَّنِي … قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ

وقال ابن الْمُنَيِّر -رحمه الله-: مرادها أنها كانت تترك التسمية اللفظية، ولا يترك قلبها التعلق بذاته الكريمة مودةً ومحبة. انتهى.


(١) "شرح النوويّ" ١٥/ ٢٠٣.
(٢) "الفتح" ١٣/ ٦٥٢ - ٦٥٣.
(٣) "المفهم" ٦/ ٣٢٢ - ٣٢٣.