باتفاق أئمة أهل الأصول، ولا يُلتفت لقول الدقاق في ذلك، فإنَّه واضح الفساد كما بيَّنَّاه في الأصول، ولئن سلَّمنا أن لأسماء الأعداد دليل خطاب، فدليل الخطاب إنما يُصار إليه إذا لم يعارضه منطوق به، فإنه أضعف وجوه الأدلة عند القائلين به، وهنا أمران هما أَولى منه -بالاتفاق -:
أحدهما: النقل الصحيح.
والثاني: ما يُعْلَم من ضرورة العادة.
فأمَّا النقل: فقد ذكر القاضي أبو بكر وغيره جماعةً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - منهم: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة. وقد سَمَّى أبو عبد الله المازري منهم خمسة عشر.
وقد تواترت الأخبار بأنه قُتل يوم اليمامة سبعون ممن جَمَع القرآن، وكان ذلك في سنة وفاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم - وأول سِنِي خلافة أبي بكر -رضي الله عنه -، وإذا قُتل في جيش واحد سبعون ممن جمع القرآن؛ فالذين بقوا في ذلك الجيش منهم لم يقتلوا أكثر من أولئك أضعافًا، وإذا كان ذلك في جيش واحد! فانظر كم بقي في مدن الإسلام إذ ذاك، وفي عساكر أُخَر من الصحابة -رضي الله عنهم - ممن جمع القرآن، فيظهر من هذا أن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لا يُحصيهم أحد، ولا يضبطهم عدد.
وأما الثاني وهو العادة: وذلك أنها تقتضي أن يجتمع الكثير، والجم الغفير على حِفظه ونَقْله، وذلك أن القرآن على نظم عجيب، وأسلوب غريب، مخالف لأساليب كلامهم في نثرهم ونظامهم، مع ما تضمَّنه من العلوم، والأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، والقَصَص والأخبار، والتبشير والإنذار، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك يُشيعه في الناس، ويشافه به البلغاء الأكياس، وما كان هذا سبيله فالعادة تقتضي أن تتوفر الدواعي على حفظ جميعه، والوقوف على ما تضمّنه من أنواع حِكَمه وبدائعه، ومحاسن آدابه وشرائعه، وتُحيل انفراد الآحاد بحفظه، كما تُحيل انفرادهم بنقله، فقد ظهر من هذه المباحث العجاب أن ذلك الحديث ليس له دليل خطاب.