فإنْ قيل: فإذا لم يكن له دليل خطاب، فلأي شيء خصَّ هؤلاء الأربعة بالذِّكر دون غيرهم؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: أنه يَحْتَمِل أن يكون ذلك لتعلُّق غَرَض المتكلم بهم دون غيرهم؛ كالحال في ذِكر الألقاب.
وثانيها: لحضور هؤلاء الأربعة في ذهنه دون غيرهم.
وثالثها: أن هؤلاء الأربعة قد اشتَهَروا بذلك في ذلك الوقت دون غيرهم ممن يَحفظ جميعه.
ورابعها: لأن أنسًا سمع من هؤلاء الأربعة إخبارهم عن أنفسهم أنهم جمعوا القرآن، ولم يسمع مثل ذلك من غيرهم، وكلُّ ذلك مُحْتَمِلٌ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله - وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم (١).
وقال في "الفتح": وقد استنكره -يعني: هذا الحديث- جماعة من الأئمة، قال المازريّ: لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأن التقدير: أنه لا يعلم أن سواهم جَمَعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك، مع كثرة الصحابة -رضي الله عنهم -، وتفرّقهم في البلاد؟ وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يَكْمُل له جَمْع القرآن في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلم -، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك، قال: وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسَّك لهم فيه، فإنا لا نسلِّم حَمْله على ظاهره، سلّمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلّمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجمّ الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حَفِظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكلُّ الكلَّ، ولو على التوزيع كفى.
واستدلّ القرطبيّ على ذلك ببعض ما تقدم، من أنه قُتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتل في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلم - ببئر معونة مثل هذا العدد، قال: