٢٢ - (ومنها): ما قاله الداوديّ: هذا الحديث يدلّ على بطلان الحديث الذي ورد: "اللَّهُمَّ من آمن بي، وصدّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد. . ." الحديث، قال: وكيف يصح ذلك، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحض على النكاح والتماس الولد؟.
قال الحافظ: لا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معًا، لكن يعكُر عليه حديث الباب، فيقال: كيف دعا لأنس، وهو خادمه بما كرهه لغيره؟
ويَحْتَمِل أن يكون مع دعائه له بذلك قَرَنه بأن لا يناله من قِبَل ذلك ضررٌ؛ لأن المعنى في كراهية اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لِمَا يُخشَى من ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا يؤمَن معها الهلكة. انتهى (١).
٢٣ - (ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ أكثر ماله وولده" يدلُّ على إباحة الاستكثار من المال والأولاد، والعيال، لكن إذا لم يشغل ذلك عن الله تعالى، ولا عن القيام بحقوقه، لكن لمَّا كانت سلامة الدِّين مع ذلك بادرة، والفتن والآفات غالبة، تعيَّن التقلُّل من ذلك، والفرار مما هنالك، ولولا دعوة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنس - رضي الله عنه - بالبركة لخيفَ عليه من الإكثار الهلكة، ألا ترى: أن الله تعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبَّه على المفاسد الناشئة من ذلك فقال:{أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} الآية [الأنفال: ٢٨]، وصدَّر الكلام بإنما الحاصرة المحققة، فكأنه قال: لا تكون الأموال والأولاد إلا فتنة؛ يعني: في الغالب، ثم قال بعد ذلك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}[التغابن: ١٤]، ووَجْه عداوتهما: أن محبَّتهما موجبة لانصراف القلوب إليهما، والسعي في تحصيل أغراضهما، واشتغالها بما غلب عليها من ذلك عما يجب عليهما من حقوق الله تعالى، ومع غلبة ذلك تذهب الأديان، ويعم الخسران، فأيُّ عداوةٍ أعظم من عداوة من يدمر دينك هذا الدمار، ويورثك عقوبة النار؟! ولذلك قال تعالى، وهو أصدق القائلين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ
(١) "الفتح" ١٤/ ٣٤٤ - ٣٤٥، كتاب "الدعوات" رقم (٦٣٣٤).