للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الاتساع في الإحسان، وهو اسم جامع للخير، وقيل: الْبَرّ هنا بمعنى المتنزه عن المآثم، وأما الحنيف فقيل: هو المستقيم، والأصح أنه المائل إلى الخير، وقيل: الحنيف التابع ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. انتهى (١).

وقوله:

(أَتَهجُوه ولَستَ لَهُ بِكُفءٍ … فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِداءُ) (٢)

هذا يتضمن الدُّعاء بإنزال المكاره بأكثر الرجلين شرًّا، وإنزال الخير بأكثرهما خيرًا، وعند ذلك يتوجَّه عليه إشكال، وهو أن شرًّا وخيرًا هنا للمفاضلة، والمعقول من المفاضلة اشتراك المتفاضلين فيما وقعت فيه، واختصاص أحدهما بزيادة فيه، فيلزم منه: أن يكون في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- شرٌّ، وهو باطل، فتعيَّن تأويل ذلك، فقال السُّهيليّ: إن شرًّا هنا بمعنى: أنقص، وحُكي عن سيبويه أنه قال: تقول: مررت برجل شرٍّ منك؛ أي: أنقص عن أن تكون مثله، قال السُّهيليّ: ونحو منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "شرُّ صفوف الرجال آخرها"، رواه مسلم، يريد: نقصان حقهم عن حظ الصف الأول، ولا يجوز أن يريد به التفضيل في الشرٍّ.

قال القرطبيّ: وأوضح من هذا، وأبعد من الإعتراض أن يقال: إن الأصل في "أفعل" ما ذُكِر، غير أن المعنى الذي يُقصد به المفاضلة فيه قد يكون معنى وجوديًا، كما يقال: بياض الثلج أشدُّ من بياض العاج، وقد يكون المعنى توهُّمًا بحسب زعم المخاطب، كما قال تعالى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: ٧٥]، وذلك أن الكفار زعموا: أن المؤمنين شرٌّ منهم، فأجيبوا بأن قيل لهم: ستعلمون باطل زعمكم بأن تشاهدوا عاقبة من هو الموصوف بالشر، وعلى هذا يُخَرَّج معنى البيت، فإنَّهم كانوا يعتقدون في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- شرًّا، فخاطبهم بحسب زعمهم، ودعا على الأشرّ من الفريقين منهما له، وهو يعنيهم قطعًا، فإنَّهم هم أهل الشر، لكنهم أتاهم بدعاء نَصَف يُسكِت الظالم، ويُرضي المظلوم.


(١) "شرح النوويّ" ١٦/ ٤٩ - ٥٠.
(٢) هذا البيت ليس في نصّ مسلم، وإنما ذكره القرطبيّ، فتنبّه.