وقال القرطبيّ -رحمه اللهُ- عند قوله: يقولون: "ما بال المهاجرين والأنصار. . . إلخ" ما نصّه: هذا الإنكار خلاف إنكار عائشة -رضي الله عنها-؛ فإنَّها إنما أنكرت سرد الحديث، وهؤلاء أنكروا على أبي هريرة أن يكون أكثر الصحابة حديثًا، وهذا إنكار استبعادٍ وتعجب، لا إنكار تُهمة، ولا تكذيب؛ لِمَا يُعْلَم مِن حِفظه، وعِلمه، وفضله، ولِمَا يُعْلَم أيضًا من فضلهم، ومعرفتهم بحاله، ولذلك بيَّن لهم الموجِب لكثرة حديثه، وبيَّن أنه شيئان:
أحدهما: أنه لازَم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما لم يلازموا، فحضر ما لم يحضروا.
والثاني: بركة امتثال ما أرشد إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بَسْط ثوبه، وضمِّه إلى صدره، فكان ذلك سبب حفظه، وعدم نسيانه، فقد حصلت لأبي هريرة ولأمه من بركات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصائص دعواته، ما لم يحصل لغيره، ثم إن أبا هريرة -رضي الله عنه- لَمّا حَفِظ علمًا كثيرًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتحقق أنه وجب عليه أن يبلّغه غيره، ووجد من يَقبل عنه، ومن له رغبة في ذلك، تفرَّغ لذلك مخافة الفوت، ومعاجلة القواطع، أو الموت، ثم إنه لمّا آلمه الإنكار همَّ بترك ذلك والفرار منه، لكنه خاف من عقوبة الكتمان المنبَّه عليها في القرآن، ولذلك قال: لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثًا، ثم تلا قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ} الآيتين. انتهى (١)، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا متفق عليه.