والاستئناف هنا بيانيّ، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأن الناس قالوا له: ما سبب ذلك؟، فقال: إن إخواني (مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ) وفي رواية ابن سعد: "كان يشغلهم القيام على أرضيهم"؛ أي: القيام بزراعة أرضيهم، فإنهم كانوا أصحاب أراض، وليسوا أصحاب تجارة، (وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ) بفتح، فسكون: هو ضرب اليد على اليد، وجَرَتْ عادتهم به عند عقد البيع.
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: والصَّفق بالأسواق: التجارة فيها، وقد تقدَّم أنهم كانوا يتواجبون بالأيدي، فيُصَفِّق أحدهما في كفّ الآخر، فإذا فعلوا ذلك وجب البيع، فسمِّي البيع صفقًا بذلك، وقد تقدم هذا. انتهى (١).
(بِالأَسْوَاقِ)؛ لأنهم ليست لهم أراض يزرعونها حيث كانوا نزلاء، وليسوا مواطنين، (وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى مِلْءِ بَطْنِي)؛ أي: بشِبعي، (فَأَشْهَدُ)؛ أي: أحضر مجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا غَابُوا)؛ أي: الأنصار والمهاجرون بسبب اشتغالهم بما ذُكر، (وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا) بفتح النون، وضمّ السين المهملة، أصله: نَسِيُوا بكسر السين، بوزن عَلِمُوا، فنُقلت ضمّة الياء إلى السين بعد سَلْب حركتها، ثمّ حُذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، فصار: نَسُوا.
والمعنى: أنه يحفظ، ويبقى محفوظه لديه؛ لصفاء ذاكرته بسبب عدم ما يشغله من الأهل والمال، بخلافهم، فإن اشتغالهم بذلك يورثهم النسيان، والله تعالى أعلم.
والحاصل: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- بيّن بهذا أن سبب كثرة أحاديثه ملازمة مجالس النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعدم اشتغاله بالزراعة، والتجارة، أشغاله، ثم زاد سببًا آخر مما ثبّت محفوظاته، بقوله:
(وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا:"أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ، فَيَأْخُذُ) بالرفع عطفًا على "يبسط"، (مِنْ حَدِيثِي هَذَا) الذي أُحدّث به، (ثُمَّ يَجْمَعُهُ) بالرفع أيضًا لِمَا ذُكر. (إِلَى صَدْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ"، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَدِيثِه، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ)؛