الأخرى:"خير الناس قرنيّ"، قال القرطبيّ -رحمه الله-: القرن - بسكون الراء - من الناس: أهل زمان واحد، قال الشاعر [من الطويل]:
إذَا ذَهَبَ القَرنُ الذي أنتَ فِيهِمُ … وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأَنتَ غَرِيبُ
وقيل: مقدار زمانه: ثمانون سنة، وقيل: ستون، ويعني: أن هذه القرون الثلاثة: أفضل مِمَّا بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، هذا ظاهر الحديث، فأما أفضلية الصحابة، وهم القرن الأول على من بَعْدَهم، فلا تخفى، وقد بيّنّا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضلُ منهم، أو مساوٍ لهم في "كتاب الطهارة"، وأما أفضلية مَن بعدهم، بعضهم على بعض، فبحسب قرْبهم من القرن الأول، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين، ونَشْر العلم، وفَتْح الأمصار، وإخماد كلمة الكفر، ولا خفاء: أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر وأغلب مما كان في أتباعهم، وكذلك الأمر في الذين بعدهم، ثم بعد هذا غلبت الشرور، وارتُكبت الأمور، وقد دلَّ على صحة هذا قوله في حديث أبي سعيد:"يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقال: نعم، فيُفتح لهم. . ." الحديث متّفقٌ عليه. انتهى (١).
وسيأتي تمام البحث في أقوال أهل العلم في معنى القرن في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: القرن الذي بعدهم، وهم التابعون، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: وهم أتباع التابعين.
قال النوويّ -رحمه الله-: اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أصحابه، وقد قدمنا أن الصحيح الذي عليه الجمهور أن كل مسلم رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولو ساعة فهو من أصحابه، ورواية:"خير الناس" على عمومها، والمراد منه: جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابيّ على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولا أفراد النساء على مريم، وآسية، وغيرهما، بل المراد: جملة القرن بالنسبة إلى كل قرن بجُملته.