للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(وَلَا تَنَاجَشُوا) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فَسَّره كثير من العلماء بالنجش في البيع، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لِنَفْع البائع لزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر -رضي الله عنهما -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نَهَى عن النجش، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربًا خائنٌ، ذَكَره البخاريّ، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن فاعله عاصٍ لله تعالى؛ إذا كان بالنهي عالِمًا، واختلفوا في البيع، فمنهم من قال: إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ومنهم من قال: إن كان الناجش هو البائعَ، أو مَن واطأه البائع على النجش، فقد فسد؛ لأن النهي هنا يعود إلى العاقد نفسه، وإن لم يكن كذلك لم يفسد؛ لأنه يعود إلى أجنبيّ، وكذا حُكي عن الشافعي أنه عَلَّل صحة البيع بأن البائع غير الناجش، وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية عنه، إلا أن مالكًا وأحمد أثبتا للمشتري الخيار؛ إذا لم يعلم بالحال، وغُبِن غبنًا فاحشًا يخرج عن العادة، وقد رواه مالك، وبعض أصحاب أحمد بثلث الثَّمَن، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك، وإن أراد الإمساك، فإنه يحطّ ما غُبن به من الثمن، ذكره أصحابنا.

ويَحْتَمِل أن يُفَسَّر التناجش المنهيّ عنه في هذا الحديث بما هو أعمّ من ذلك، فإن أصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر، والحيلة، والمخادعة، ومنه سُمِّي الناجش في البيع ناجشًا، ويُسَمَّى الصائد في اللغة ناجشًا؛ لأنه يصيد الصيد بحيلته عليه، وخداعه له، وحينئذ فيكون المعنى: لا تَتَخَادَعُوا، ولا يعامل بعضكم بعضًا بالمكر، والاحتيال، وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم، إما بطريق الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصول الضرر إليه، ودخوله عليه، وقد قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: ٤٣]، وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا، والمكر، والخداع في النار" (١). وفي حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-


(١) رواه الطبرانيّ، وأبو نعيم، وصححه ابن حبّان.