وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء"؛ أي: مِحْنةً، ويُطلق على المنحة، لكن المراد هنا بقرينة السياق: المحنة، فإن أصله الاختبار، لكن لمّا كان اختبار الله تعالى لعباده تارةً بالمحنة، وتارة بالمنحة، أُطلق عليهما.
وقوله:"الأنبياء": المراد بهم ما يشمل الرسل، وذلك لتتضاعف أجورهم، وتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم، فيُقتدَى بهم، ولئلا يُفتتن الناس بدوام صحتهم، فيعبدوهم. وقوله:"ثم الأمثل، فالأمثل"؛ أي: الأشرف، فالأشرف، والأعلى، فالأعلى؛ لأن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، فبلاؤه أشدّ، ولهذا ضوعف حدّ الحرّ على العبد، فهم مُعَرَّضون للمحن، والمصائب، وضُروب المنغّصات والمتاعب، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} الآية [البقرة: ١٥٥].
وقال بعضهم: جَعَل مقام المبتلى يلي مقام النبوة، ولم يفصل بين بلاء الأبدان، وبلاء الأعراض، فيشمل كل ما يتأذى به الإنسان.
قال الطيبيّ: و"ثُمّ" للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزّلًا من الأعلى إلى الأسفل.
وقوله:"يُبتلَى الرجل" بيان للجملة الأُولى، والتعريف في "الأمثل" للجنس، وفي "الرجل" للاستغراق في الأجناس المتوالية، "على حسب دينه"؛ أي: بقدر قوّة إيمانه، وشدّة إيقانه، وضَعْف ذلك، "فإن كان في دينه صلبًا"؛ أي: قويًّا، "اشتد بلاؤه"؛ أي: عَظُم للغاية، "وإن كان في دينه رِقّة"؛ أي: ضَعف، وليْن، "ابتلي على قدر دينه"؛ أي: ببلاء هَيِّن لَيِّن، والبلاء في مقابلة النعمة، كما مرّ، ومن ثم قيل لأمهات المؤمنين: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)} [الأحزاب: ٣٠]، "فما يبرح البلاء بالعبد"؛ أي: الإنسان، "حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة" كناية عن سلامته من الذنوب، وخلاصه منها؛ كأنه كان محبوسًا، فامع طلق، وخُلِّي سبيله، فهو يمشي، وما عليه بأس، ومن ظن أن شدّة البلاء هوان بالعبد، فقد ذهب لبّه، وعَمِي قلبه، فقد ابتُلي من الأكابر ما لا يحصى.