والطرف الثاني: طرف الغُلاة في الرد عليهم، وهم الذين قالوا: لا ينزه الربّ عن فِعل من الأفعال، ولا نعلم وجه امتناع الفعل منه، إلا من جهة خبره، أنه لا يفعله، المطابق لعلمه، بأنه لا يفعله، وهؤلاء منعوا حقيقة ما أخبر به من أنه كَتَب على نفسه الرحمة، وحرّم على نفسه الظلم، قال الله تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام: ٥٤]، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن الله لمّا قضى الخلق، كتب على نفسه كتابًا، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"، ولم يعلم هؤلاء أن الخبر المجرد المطابق للعلم، لا يبيّن وَجْه فِعله وترْكه؛ إذ العلم يطابق المعلوم، فعِلمه بأنه يفعل هذا، وأنه لا يفعل هذا، ليس فيه تعرّض؛ لأنه كتب هذا على نفسه، وحرّم هذا على نفسه، كما لو أخبر عن كائن مَن كان أنه يفعل كذا، ولا يفعل كذا، لم يكن في هذا بيان لكونه محمودًا ممدوحًا على فِعل هذا، وترْك هذا، ولا في ذلك ما يبيّن قيام المقتضي لهذا، والمانع من هذا، فإن الخبر المحض كاشف عن المخبَر عنه، ليس فيه بيان ما يدعو إلى الفعل، ولا إلى الترك، بخلاف قوله:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام: ١٢]، وحرّم على نفسه الظلم، فإن التحريم مانع من الفعل، وكتابته على نفسه داعية إلى الفعل، وهذا بَيِّن واضح؛ إذ ليس المراد بذلك مجرد كتابته أنه يفعل، وهو كتابة التقدير، كما قد ثبت في "الصحيح": "أنه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"، فإنه قال:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، ولو أريد كتابة التقدير لكان قد كتب على نفسه الغضب، كما كتب على نفسه الرحمة؛ إذ كان المراد مجرّد الخبر عما سيكون، ولكان قد حرّم على نفسه كل ما لم يفعله من الإحسان، كما حرّم الظلم.
وكما أن الفرق ثابت في حقنا بَيْنَ قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة: ١٧٨]، وبيْن قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)} [القمر: ٥٢]، وقوله:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد: ٢٢]، وقوله: "فيُبعث إليه الملَك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال