ولهذا كان قِوَام الناس بأهل الكتاب، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء، وقالوا في قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: ٥٩] أقوالًا تجمع العلماء والأمراء، ولهذا نصّ الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية؛ إذ كلٌّ منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله، وكان نوّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ كعليّ، ومعاذ، وأبي موسى، وعَتّاب بن أَسِيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم، يجمعون الصنفين، وكذلك خلفاؤه من بعده؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ونوابهم.
ولهذا كانت السُّنَّة أن الذي يصلي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد، إلى أن تفرّق الأمر بعد ذلك، فإذا تفرّق صار كل من قام بأمر الحرب من جهاد الكفار، وعقوبات الفجار، يجب أن يطاع فيما يأمر به، من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بجمع الأموال، وقَسْمها يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بالكتاب بتبليغ أخباره، وأوامره، وبيانها، يجب أن يصدَّق، ويطاع فيما أخبر به من الصدق في ذلك، وفيما يأمر به، من طاعة الله في ذلك.
والمقصود هنا أن المقصود بذلك كلّه هو أن يقوم الناس بالقسط، ولهذا لمّا كان المشركون يُحَرِّمون أشياء، ما أنزل الله بها من سلطان، ويأمرون بأشياء، ما أنزل الله بها من سلطان، أنزل الله في "سورة الأنعام"، و"الأعراف"، وغيرهما يذمّهم على ذلك، وذَكَر ما أمر به هو، وما حرّمه هو، فقال:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[الأعراف: ٢٩]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)} [الأعراف: ٣٣].
وهذه الآية تجمع أنواع المحرّمات، كما قد بيّناه في غير هذا الموضع، وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات، كما بيّناه أيضًا.