وهو خلقك" قلت: ثم أيّ؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديق ذلك:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: ٦٨].
وقد جاء عن غير واحد من السلف، ورُوي مرفوعًا: "الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو ظُلم العباد بعضهم بعضًا، فإن الله لا بُدّ أن يُنصف المظلوم من الظالم، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه"؛ أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق، فإن شاء عذّب هذا الظالم لنفسه، وإن شاء غفر له.
وقد بسطنا الكلام في هذه الأبواب الشريفة، والأصول الجامعة في القواعد، وبيَّنا أنواع الظلم، وبيَّنا كيف كان الشرك أعظم أنواع الظلم، ومسمى الشرك جليله ودقيقه، فقد جاء في الحديث: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل".
ورُوي أن هذه الآية نزلت في أهل الرياء:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: ١١٠]، وكان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية. قال أبو داود السجستانيّ، صاحب "السنن" المشهورة: الخفية حبّ الرياسة، وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك، أو مبدأ الشرك.
والشرك أعظم الفساد، كما أن التوحيد أعظم الصلاح، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)} [القصص: ٤] إلى أن ختم السورة بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}[القصص: ٨٣]، وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ