هؤلاء: إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تُقبل توبتهم، فهذا إنما يريدون به رَفْع العقوبة المشروعة عنهم؛ أي: لا تُقبل توبتهم بحيث يُخَلَّى بلا عقوبة، بل يعاقب، إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يُظَنّ به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى إنتهاك المحارم، وسدّ باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة، فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تُمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} الآية [النساء: ١٧، ١٨].
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا لي: كلّ من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت، فهذا كفرعون الذي قال أنا الله، فلما {. . . أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)} [يونس: ٩٠]، قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)} [يونس: ٩١]، وهذا استفهام إنكار بَيّن به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار، إما بمعنى النفي، إذا قابل الإخبار، وإما بمعنى الذمّ والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا.
ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر: ٨٣ - ٨٥]، بَيّن أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وإن هذه سُنَّة الله التي قد خَلَتْ في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث:"إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، ورُوي:"ما لم يعايِن".
وقد ثبت في "الصحيحين" أنه - صلى الله عليه وسلم - عَرَض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًّا كان يخدُمه، فعرض عليه الإسلام، فأسلم، فقال:"الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"، ثم قال لأصحابه:"آووا أخاكم".