العصفور من هذا البحر؛ أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبَّه به جسمًا ينتقل من محلّ إلى محل، ويزول عن المحلّ الأول، وليس المشبَّه كذلك، فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال:"إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، فشبَّه الرؤية بالرؤية، وهي وإن كانت متعلقة بالمرئيّ في الرؤية المشبَّهة، والرؤية المشبَّه بها، لكن قد عَلِم المستمعون أن المرئيّ ليس مثل المرئيّ، فكذلك هنا شبَّه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبَّه به ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبَّه به.
ولهذا كل أحد يعلم أن المعلّم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبّهونه بضوء السراج الذي يحدُث يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشُّهُب، وهو باقٍ بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يُحْدِث الله في فتيلته، أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال: إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم، مع بقاء علم المعلم، ولهذا قال عليّ - رضي الله عنه -: العلم يزكو على العمل، أو قال: على التعليم، والمال ينقصه النفقة، وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذرّ: إن قوله: "مما عندي"، وقوله:"من ملكي" هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان:
أحدهما: أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمى مُلكه، ومسمى ما عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نَفْس علم موسى والخضر.
والثاني: أن يقال: بل لفظ المُلك، وما عنده يتناول كلّ شيء، وما أعطاهم فهو جزء من مُلكه، ومما عنده، ولكن نِسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة.
ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذيّ رَوَى هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذرّ مرفوعًا، فيه: "لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم، فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة، لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد، ماجد، واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما