النقص ونحوه تُستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيِّب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة، حتى عَجِب مِنْ حِفظه، وقال: نزفتني يا أعمى، وإنزاف القَليْب ونحوه هو رَفْع ما فيه، بحيث لا يبقى فيه شيء، ومعلوم أن قتادة لو تعلّم جميع عِلم سعيد لم يزل عِلمه من قلبه، كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها، مما يكون بالمحلّ، ويزول عنه، ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم، كما قال تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف: ٥].
ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث، ولم يُخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحلّ، وهذا نزيف، وخروج، كان كلام سعيد بن المسيِّب على حقيقته، ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه، وكلّمه فارقه أمور قامت به، من حركات، وأصوات، بل ومن صفات قائمة بالنفس، كان ذلك نزيفًا، ومما يقوِّي هذا المعنى أن الإنسان، وإن كان عِلْمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه، ويغفل، وقد ينساه، ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارةً، ويغيب أخرى، وإذا تكلم به الإنسان وعلمه، فقد تَكِلّ النفس، وتعي حتى لا يقوى على استحضاره، إلا بعد مدّة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه، واستحضار الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول: كون التعليم يُرَسِّخ العلم من وجه، لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد، كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزهًا عن اتصافه بضدّ العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به، وحركات نزاع بين الناس من المسلمين، وغيرهم، وتحقيق الأمر أن المراد: ما أَخَذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}[البقرة: ٢٥٥] إلا كما نقص، أو أخذ، أو نال هذا