للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

المنافقين كذلك، وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يُعفَى عنهم ما لم يُظهروا نفاقهم، فإن أظهروه قُتلوا، وهذا أيضًا يخالف ما جرى في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ منهم من أظهر نفاقه، واشتهر عنه حتى عُرف به، والله أعلم بنفاقه، ومع ذلك لم يُقتلوا؛ لِمَا ذكرناه، والله تعالى أعلم.

قال: وقد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين؛ لأنَّه لم تقم بيّنة معتبَرة بنفاقهم؛ إذ قد نُصّ فيه على المانع من ذلك، وهو غير ما قالوه، وفيه ما يدلّ على أن أهون الشرّين يجوز العمل على مقتضاه، إذا اندفع به الشرّ الأعظم، وفيه دليل على القول بصحة سدّ الذرائع، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسب لذلك النفي (١).

وقال الأبيّ - رحمه الله - (٢): في الحديث تَرْك تغيير المنكر إذا خاف أن يؤدّي إلى مفسدة أشدّ، واختُلف هل بقي جواز قتل المنافقين، والإغضاء عنهم، أو نُسخ بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}؟ ومال غير واحد من أئمتنا - يعني: المالكيّة - وغيرهم إلى أنه إنما يجوز العفو عنهم ما لم يُظهروا نفاقهم، فإن أظهروه قُتلوا، واحتَجَّ بقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآية [الأحزاب: ٦٠]، وهو يدلّ على أن المنافقين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يستحقّون القتل لولا المانع المذكور، ولِمَا يُتّقى في قَتْلهم من غضب عشائرهم، فتثور الفتنة، ويُمْتَنَعُ من الدخول في الدين، وهو خلاف المقصود، والحديث يردّ على من يقول: إنما لم يقتلهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم تقُم بيّنة على نفاقهم؛ لأنه نصّ في هذا الحديث على المانع، وفيه القول بسدّ الذرائع، وارتكاب أخفّ الضررين، ومن قال من الأئمّة: إنهم إذا أظهروا النفاق يُقتلون يُرَدّ عليه أنه في عهده - صلى الله عليه وسلم - منهم من أظهر النفاق؛ كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، قالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، واشتهر به، ومع ذلك لم يُقتل هو، ولا أصحابه، والله تعالى أعلم.


(١) "المفهم" ٦/ ٥٦١ - ٥٦٣.
(٢) "شرح الأبيّ" ٧/ ٣٢ - ٣٣.