وعليه إثم الثانية، وكذلك لو ردّ عليه بأفحش من الأُولى، فيقول له: خنزير مثلًا كان كل واحد منهما مأثومًا؛ لأنَّ كلًّا منهما جانٍ على الآخر، وهذا كلّه مقتضى قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: ١٩٤]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: ٤٠].
قال: وكلُّ ما ذكرناه من جواز الانتصار، إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبًا، أو بهتانًا، وإلا فلا يجوز أن يتكلّم بذلك، لا ابتداءً، ولا قصاصًا، وكذلك لو كان قَذْفًا، فلو ردّه كان كلّ واحد منهما قاذفًا للآخَر، وكذلك لو سبّ المبتدئ أبا المسبوب، أو جدّه لم يَجُز له أن يردّ ذلك؛ لأنَّه سبٌّ لمن لم يَجْنِ عليه، فيكون الردّ عدوانًا، لا قصاصًا.
قال بعض علمائنا: إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السبّ مما يجوز سبّ المرء به عند التأديب؛ كالأحمق، والجاهل، والظالم؛ لأنَّ أحدًا لا ينفكّ عن بعض هذه الصفات، إلا الأنبياء، والأولياء، فهذا إذا كافاه بسبّه، فلا حرج عليه، ولا إثم، وبقي الإثم على الأول بابتدائه، وتعرّضه لذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: تخصيص هؤلاء السبّ بهذا النوع الذي ذكروه محلّ نظر؛ إذ النصّ عامّ، فلا ينبغي تخصيصه إلا بدليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ظاهر قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)} [الشورى: ٤١] أن الانتصار مباح، وعلى ذلك يدلّ الحديث المذكور، لكنّ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)} [الشورى: ٣٩] مَدْح من الله تعالى للمنتصِر، والمباح لا يُمدح عليه، فاختَلَف العلماء في ذلك، فقال السّدّيّ: إنما مَدَح الله من انتصر ممن بَغَى عليه من غير زيادة على مقدار ما فَعَل به؛ يعني: أنه إنما مُدِح من حيث أنه اتقى الله في انتصاره؛ إذ أوقعه على الوجه المشروع، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل، من الزيادة على الجناية.
وقال غيره: إنما مَدَح الله من انتصر من الظالم الباغي الْمُعْلِن بظلمه الذي يعمّ ضرره، فالانتقام منه أفضل، والانتصار عليه أَولى، قال معناه إبراهيم النّخعيّ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة، وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق